الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
البحث الثالث؛ المرجع بمعنى الرجوع و{جَمِيعًا} نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت، وإنما المراد منه القيامة.البحث الرابع: قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يفيد الحصر، وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره، وأما قوله: {وَعْدَ الله حَقّا} ففيه مسألتان:المسألة الأولى:قوله: {وَعَدَ الله} منصوب على معنى: وعدكم الله وعدًا، لأن قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} معناه: الوعد بالرجوع، فعلى هذا التقدير يكون قوله: {وَعَدَ الله} مصدرًا مؤكدًا لقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} وقوله: {حَقًّا} مصدرًا مؤكدًا لقوله: {وَعَدَ الله} فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم.المسألة الثانية:قرئ {وَعَدَ الله} على لفظ الفعل.واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود.ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه.أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} وفيه مسائل:المسألة الأولى:تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقًا للأفلاك والأرضين، ويدخل فيه أيضًا كونه خالقًا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرًا على شيء، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال، وكان عالمًا بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته.المسألة الثانية:اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا؟ فقال قوم إنه تعالى يعدمها، واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها، فوجب أن يعيد الأجسام أيضًا، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال.ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم، فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضًا من العدم.المسألة الثالثة:في هذه الآية إضمار، كأنه قيل: إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة، ثم يميتهم ثم يعيدهم، كما قال في سورة البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم} [البقرة: 28] إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية: {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} [يونس: 3] وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الأعادة يدل عليها.المسألة الرابعة:قرأ بعضهم {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالكسر وبعضهم بالفتح.قال الزجاج: من كسر الهمزة من أن فعلى الاستئناف، وفي الفتح وجهان: الأول: أن يكون التقدير: إليه مرجعكم جميعًا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده.والثاني: أن يكون التقدير: وعد الله وعدًا بدأ الخلق ثم إعادته، وقرئ {يُبْدِئ} من أبدأ وقرئ {حَقّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} كقولك: حق إن زيدًا منطلق.أما قوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لابد من حصول الحشر والنشر، حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء، وحتى يصل الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي، وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل، وفيه مسائل:المسألة الأولى:قال الكعبي: اللام في قوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا} يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة.وأيضًا فإنه أدخل لام التعليل على الثواب.وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل، بل قال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر، وما خلق فيهم الكفر ألبتة.والجواب: أن لام التعليل في أفعال الله تعالى محال، لأنه تعالى لو فعل فعلًا لعلة لكانت تلك العلة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال.المسألة الثانية:قال الكعبي أيضًا: هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة، لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم، لما كان خلقهم وتكليفهم معللًا بإيصال تلك النعم إليهم، وظاهر الآية يدل على ذلك.والجواب: هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل، سلمنا صحته.إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع.فلم لا يجوز أن يقال: إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل، ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم؟ وعلى هذا التقدير: سقط كلامه.أما قوله تعالى: {بالقسط} ففيه وجهان:الوجه الأول: {بالقسط} بالعدل، وهو يتعلق بقوله: {لِيَجْزِىَ} والمعنى: ليجزيهم بقسطه، وفيه سؤالان.السؤال الأول: أن القسط إذا كان مفسرًا بالعدل، فالعدل هو الذي يكون لا زائدًا ولا ناقصًا، وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يعطيهم شيئًا على سبيل التفضل ابتداء.والجواب: عندنا أن الثواب أيضًا محض التفضل.وأيضًا فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق، إلا أن لفظ (القسط) يدل على توفية الأجر، فأما المنع من الزيادة فلفظ (القسط) لا يدل عليه.السؤال الثاني: لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضًا بالقسط؟والجواب: أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط.الوجه الثاني: في تفسير الآية أن يكون المعنى: ليجزي الذين آمنوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرك ظلم.قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والعصاة أيضًا قد ظلموا أنفسهم.قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهذا الوجه أقوى، لأنه في مقابلة قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.وأما قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} ففيه مسائل:المسألة الأولى:قال الواحدي: الحميم: الذي سخن بالنار حتى انتهى حره.يقال: حممت الماء أي سخنته، فهو حميم.ومنه الحمام.المسألة الثانية:احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنًا وبين أن يكون كافرًا، لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.وأجاب القاضي عنه: بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث.والدليل عليه قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى أربع} [النور: 45] ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع، بل نقول: إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر، ويترك ذكر ما عداه، إذا كان قد بين في موضع آخر.وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات.والجواب أن نقول: إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر، ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات، وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس، لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة.فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة.فإنه ليس هاهنا إلا القسم الثالث، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر.فظهر الفرق. اهـ.
.قال السمرقندي: ثم خوفهم فقال: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}، يعني: مرجع الخلائق كلهم يوم القيامة.{وَعْدَ الله حَقّا}، يعني: البعث كائنًا وصدقًا.وقال الزجاج: {وَعَدَ الله} صار نصبًا على معنى وعدكم الله وعدًا، لأن قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} معناه الوعد بالرجوع.{أَنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ}؛ قال أهل اللغة: الياء صلة ومعناه إنه بدأ الخلق ثم يعيده، يعني: خلق الخلق في الدنيا ثم يحييهم بعد الموت يوم القيامة، {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}؛ يعني: لكي يثبت الذين آمنوا بالبعث بعد الموت، {وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط}؛ يعني: عملوا الطاعات بالعدل وقال الضحاك: يعني: الذين قاموا بالعدل وأقاموا على توحيده، يعطيهم من رياض الجنة حتى يرضوا.{والذين كَفَرُواْ}، يعني: ويجزي الذين كفروا.ثم بينّ جزاءهم، فقال: {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ}، يعني: ماءً حارًا قد انتهى حره، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}؛ يعني: يجحدون الرسالة والكتاب. اهـ..قال الثعلبي: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} معادكم {جَمِيعًا} نصب على الحال {وَعْدَ الله حَقًّا} صدقًا لا خُلف فيه، وهو نصب على المصدر، أي وعد الله وعدًا حقًّا فجاء به حقًّا، وقيل: على القطع، وقرأ ابن أبي عبلة: وعد الله حق على الاستئناف، ثم قال: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي يحميهم ابتداءً ثم يميتهم ثم يحييهم، وقرأ العامة: {إنّه} بكسر الألف على الاستئناف.وقرأ أبو جعفر: أنه، بالفتح على معنى: لأنه وبأنه، كقول الشاعر:{لِيَجْزِيَ} ليثيب {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} بالعدل ثم قال: مبتدئًا {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ} ماء حار قد انتهى حرّه {حَمِيمٍ} وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول، وكل مسخن مُغلي عند العرب فهو حميم.قال المرقش: {وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}. اهـ. .قال ابن عطية: قوله: {إليه مرجعكم جميعًا} الآية.آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع، وقوله: {جميعًا} الآية، حال من الضمير في {مرجعكم}، {وعد الله} نصب على المصدر، وكذلك قوله: {حقًا} وقال أبو الفتح {حقًا} نعت، وقرأ الجمهور {إنه} بكسر الألف على القطع والاستئناف، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله: {أنه} بفتح الألف، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه، وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير يحق أنه.قال القاضي أبو محمد: يجوز عندي أن يكون {أنه} بدلًا من قوله: {وعد الله}، قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد. وإن شئت قدرته {وعد الله حقًا أنه} ولا يعمل فيه المصدر الذي هو {وعد الله} لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله، وقرأ ابن أبي عبلة {حقٌّ} بالرفع فهو ابتداء وخبره {أنه} وقوله: {يبدأ الخلق} يريد النشأة الأولى، والإعادة هي البعث من القبور، وقرأ طلحة {يُبدِئ الخلق} بضم الياء وكسر الدال، وقوله: {ليجزي} هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال، وقوله: {بالقسط} أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم، وقوله: {والذين كفروا} ابتداء والحميم الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش:وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه، وهو كما وصفه تعالى: {يشوي الوجوه} [الكهف: 29]. اهـ. .قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعًا} أي: مصيركم يوم القيامة {وعْدَ الله حقًا} قال الزجاج: {وَعْدَ الله} منصوب على معنى: وعدكم الله وعدًا، لأن قوله: {إِليه مرجعكم} معناه: الوعد بالرجوع، و{حقًا} منصوب على: أحق ذلك حقًا.قوله تعالى: {إِنه يبدأ الخلق} قرأه الأكثرون بكسر الألف.وقرأت عائشة وأبو رزين وعكرمة وأبو العالية والأعمش: بفتحها.قال الزجاج: من كسر، فعلى الاستئناف، ومن فتح، فالمعنى: إِليه مرجعكم، لأنه يبدأ الخلق.قال مقاتل: يبدأ الخلق ولم يكن شيئًا، ثم يعيده بعد الموت.وأما القسط، فهو العدل.فإن قيل: كيف خصَّ جزاء المؤمنين بالعدل، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضًا؟فالجواب: أنه لو جمع الفريقين في القسط، لم يتبيَّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم، ففصلهم من المؤمنين ليبيِّن ما يجزيهم به مما هو عدل أيضًا، ذكره ابن الأنباري.فأما الحميم، فهو الماء الحارُّ.وقال أبو عبيدة: كل حار فهو حميم. اهـ.
|